كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وهذه السورة تكشف عن جانب من هذه المحاولة في إقرار حقيقة الآخرة، والحقائق الأخرى التي ألمت بها في الطريق إليها.
وحقيقة الآخرة هي ذاتها التي تصدت لها سورة الحاقة. ولكن هذه السورة تعالجها بطريقة أخرى، وتعرض لها من زاوية جديدة، وصور وظلال جديدة..
في سورة الحاقة كان الاتجاه إلى تصوير الهول والرعب في هذا اليوم، ممثلين في حركات عنيفة في مشاهد الكون الهائلة: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السمآء فهي يومئذ واهية} وفي الجلال المهيب في ذلك المشهد المرهوب: {والملك على أرجآئهآ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} وفي التكشف الذي ترتج له وتستهوله المشاعر: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} كذلك كان الهول والرعب يتمثلان في مشاهد العذاب، حتى في النطق بالحكم بهذا العذاب: {خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه} كما يتجلى في صراخ المعذبين وتأوهاتهم وحسراتهم: {يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية..} فأما هنا في هذه السورة فالهول يتجلى في ملامح النفوس وسماتها وخوالجها وخطواتها، أكثر مما يتجلى في مشاهد الكون وحركاته. حتى المشاهد الكونية يكاد الهول فيها نفسياً! وهو على كل حال ليس أبرز ما في الموقف من أهوال. إنما الهول مستكن في النفس يتجلى مداه في مدى ما يحدثه فيها من خلخله وذهول وروعة: {يوم تكون السمآء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميماً يُبَصَّرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه}..
وجهنم هنا نفس ذات مشاعر وذات وعي تشارك مشاركة الأحياء في سمة الهول الحي: {إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى}..
والعذاب ذاته يغلب عليه طابع نفسي أكثر منه حسياً: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون}..
فالمشاهد والصور والظلال لهذا اليوم تختلف في سورة المعارج عنها في سورة الحاقة، باختلاف طابعي السورتين في عمومه. مع اتحاد الحقيقة الرئيسية التي تعرضها السورتان في هذه المشاهد.
ومن ثم فقد تناولت سورة المعارج فيما تناولت تصوير النفس البشرية في الضراء والسراء، في حالتي الإيمان والخواء من الإيمان. وكان هذا متناسقاً مع طابعها النفسي الخاص: فجاء في صفة الإنسان: {إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دآئمون...} إلخ.
واستطرد السياق فصور هنا صفات النفوس المؤمنة وسماتها الظاهرة والمضمرة تمشياً مع طبيعة السورة وأسلوبها: {إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دآئمون والذين في أموالهم حق معلوم للسآئل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فأنهم غير ملومين فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون...}..
ولقد كان الاتجاه الرئيسي في سورة الحاقة إلى تقرير حقيقة الجد الصارم في شأن العقيدة. ومن ثم كانت حقيقة الآخرة واحدة من حقائق أخرى في السورة، كحقيقة أخذ المكذبين أخذاً صارماً في الأرض؛ وأخذ كل من يبدل في العقيدة بلا تسامح.. فأما الاتجاه الرئيسي في سورة المعارج فهو إلى تقرير حقيقة الآخرة وما فيها من جزاء، وموازين هذا الجزاء. فحقيقة الآخرة هي الحقيقة الرئيسية فيها.
ومن ثم كانت الحقائق الأخرى في السورة كلها متصلة اتصالاً مباشراً بحقيقة الآخرة فيها. من ذلك حديث السورة عن الفارق بين حساب الله في أيامه وحساب البشر، وتقدير الله لليوم الآخر وتقدير البشر: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً...} إلخ وهو متعلق باليوم الآخر.
ومنه ذلك الفارق بين النفس البشرية في الضراء والسراء في حالتي الإيمان والخلو من الإيمان. وهما مؤهلان للجزاء في يوم الجزاء.
ومنه غرور الذين كفروا وطمعهم أن يدخلوا كلهم جنات نعيم، مع هوانهم على الله وعجزهم عن سبقه والتفلت من عقابه. وهو متصل اتصالاً وثيقاً بمحور السورة الأصيل.
وهكذا تكاد السورة تقتصر على حقيقة الآخرة وهي الحقيقة الكبيرة التي تتصدى لإقرارها في النفوس. مع تنوع اللمسات والحقائق الأخرى المصاحبة للموضوع الأصيل.
ظاهرة أخرى في هذا الإيقاع الموسيقي للسورة، الناشئ من بنائها التعبيري.. فقد كان التنوع الإيقاعي في الحاقة ناشئاً من تغير القافية في السياق من فقرة لفقرة. وفق المعنى والجو فيه.. فأما هنا في سورة المعارج فالتنوع أبعد نطاقاً، لأنه يشمل تنوع الجملة الموسيقية كلها لا إيقاع القافية وحدها. والجملة الموسيقية هنا أعمق وأعرض وأشد تركيباً. ويكثر هذا التنوع في شطر السورة الأول بشكل ملحوظ.
ففي هذا المطلع ثلاث جمل موسيقية منوعة مع اتحاد الإيقاع في نهاياتها من حيث الطول ومن حيث الإيقاعات الجزئية فيها على النحو التالي:
{سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً}.. حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس.
{إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً}.. حيث يتكرر الإيقاع بمد الألف مرتين.
{يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميماً}.. حيث تنتهي بمد الألف في الإيقاع الثالث. مع تنوع الإيقاع في الداخل.
{يُبصَّرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لظى}.. حيث ينتهي بمد الألف في الإيقاع الخامس كالأول.
{نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً}.. حيث يتكرر إيقاع المد بالألف خمس مرات منهما اثنتان في النهاية تختلفان عن الثلاثة الأولى.
ثم يستقيم الإيقاع في باقي السورة على الميم والنون وقبلهما واو أو ياء..
والتنويع الإيقاعي في مطلع السورة عميق وشديد التعقيد في الصياغة الموسيقية بشكل يلفت الأذن الموسيقية إلى ما في هذا التنويع المعقد الراقي موسيقياً من جمال غريب على البيئة العربية وعلى الإيقاع الموسيقي العربي. ولكن الأسلوب القرآني يطوعه ويمنحه اليسر الذي يدخل به إلى الأذن العربية فتقبل عليه، وإن كان فناً إبداعياً عميقاً جديداً على مألوفها الموسيقي.
والآن نستعرض السورة تفصيلاً...
{سأل سآئل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً يوم تكون السمآء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميماً يُبَصَّرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى}..
كانت حقيقة الآخرة من الحقائق العسيرة الإدراك عند مشركي العرب؛ ولقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة، وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والاستغراب؛ وينكرونها أشد الإنكار، ويتحدون الرسول صلى الله عليه وسلم في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود، أو أن يقول لهم: متى يكون.
وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث. وفي رواية أخرى عنه: قال: ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم.
وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائلاً سأل وقوع العذاب واستعجله.
وتقرر أن هذا العذاب واقع فعلا، لأنه كائن في تقدير الله من جهة، ولأنه قريب الوقوع من جهة أخرى. وأن أحداً لا يمكنه دفعه ولا منعه. فالسؤال عنه واستعجاله وهو واقع ليس له من دافع يبدو تعاسة من السائل المستعجل؛ فرداً كان أو مجموعة!
وهذا العذاب للكافرين.. إطلاقاً.. فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر. وهو واقع من الله {ذي المعارج}.. وهو تعبير عن الرفعة والتعالي، كما قال في السورة الأخرى: {رفيع الدرجات ذو العرش} وبعد هذا الافتتاح الذي يقرر كلمة الفصل في موضوع العذاب، ووقوعه، ومستحقيه، ومصدره، وعلو هذا المصدر ورفعته، مما يجعل قضاءه أمراً علوياً نافذاً لا مرد له ولا دافع.. بعد هذا أخذ في وصف ذلك اليوم الذي سيقع فيه هذا العذاب، والذي يستعجلون به وهو منهم قريب. ولكن تقدير الله غير تقدير البشر، ومقاييسه غير مقاييسهم:
{تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً}..
والأرجح أن اليوم المشار إليه هنا هو يوم القيامة، لأن السياق يكاد يعين هذا المعنى. وفي هذا اليوم تصعد الملائكة والروح إلى الله. والروح: الأرجح أنه جبريل عليه السلام، كما سمي بهذا الاسم في مواضع أخرى. وإنما أفرد بالذكر بعد الملائكة لما له من شأن خاص. وعروج الملائكة والروح في هذا اليوم يفرد كذلك بالذكر، إيحاء بأهميته في هذا اليوم وخصوصيته، وهم يعرجون في شؤون هذا اليوم ومهامه. ولا ندري نحن ولم نكلف أن ندري طبيعة هذه المهام، ولا كيف يصعد الملائكة، ولا إلى أين يصعدون. فهذه كلها تفصيلات في شأن الغيب لا تزيد شيئاً من حكمة النص، وليس لنا إليها من سبيل، وليس لنا عليها من دليل. فحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهمية ذلك اليوم، الذي ينشغل فيه الملائكة والروح بتحركات تتعلق بمهام ذلك اليوم العظيم.
وأما {كان مقداره خمسين ألف سنة}.. فقد تكون كناية عن طول هذا اليوم كما هو مألوف في التعبير العربي. وقد تعني حقيقة معينة، ويكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة من سني أهل الأرض فعلا وهو يوم واحد! وتصور هذه الحقيقة قريب جداً الآن. فإن يومنا الأرضي هو مقياس مستمد من دورة الأرض حول نفسها في أربع وعشرين ساعة. وهناك نجوم دورتها حول نفسها تستغرق ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات.. ولا يعني هذا أنه المقصود بالخمسين ألف سنة هنا. ولكننا نذكر هذه الحقيقة لتقرب إلى الذهن تصور اختلاف المقاييس بين يوم ويوم!
وإذا كان يوم واحد من أيام الله يساوي خمسين ألف سنة، فإن عذاب يوم القيامة قد يرونه هم بعيداً، وهو عند الله قريب.
ومن ثم يدعو الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الصبر الجميل على استعجالهم وتكذيبهم بذلك العذاب القريب.
{فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً}..
والدعوة إلى الصبر والتوجيه إليه صاحبت كل دعوة، وتكررت لكل رسول، ولكل مؤمن يتبع الرسول. وهي ضرورية لثقل العبء ومشقة الطريق، ولحفظ هذه النفوس متماسكة راضية، موصولة بالهدف البعيد، متطلعة كذلك إلى الأفق البعيد..
والصبر الجميل هو الصبر المطمئن، الذي لا يصاحبه السخط ولا القلق ولا الشك في صدق الوعد. صبر الواثق من العاقبة، الراضي بقدر الله، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء، الموصول بالله المحتسب كل شيء عنده مما يقع به.
وهذا اللون من الصبر هو الجدير بصاحب الدعوة. فهي دعوة الله، وهي دعوة إلى الله. ليس له هو منها شيء. وليس له وراءها من غاية. فكل ما يلقاه فيها فهو في سبيل الله، وكل ما يقع في شأنها هو من أمر الله. فالصبر الجميل إذن ينبعث متناسقاً مع هذه الحقيقة، ومع الشعور بها في أعماق الضمير.
والله صاحب الدعوة التي يقف لها المكذبون، وصاحب الوعد الذي يستعجلون به ويكذبون، يقدر الأحداث ويقدر مواقيتها كما يشاء وفق حكمته وتدبيره للكون كله. ولكن البشر لا يعرفون هذا التدبير وذلك التقدير؛ فيستعجلون. وإذا طال عليهم الأمد يستريبون. وقد يساور القلق أصحاب الدعوة أنفسهم، وتجول في خاطرهم أمنية ورغبة في استعجال الوعد ووقوع الموعود.. عندئذ يجيء مثل هذا التثبيت وهذا التوجيه من الله الخبير:
{فاصبر صبراً جميلاً}..
والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم تثبيتاً لقلبه على ما يلقى من عنت المناوأة والتكذيب. وتقريراً للحقيقة الأخرى: وهي أن تقدير الله للأمور غير تقدير البشر؛ ومقاييسه المطلقة غير مقاييسهم الصغيرة:
{إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً}..
ثم يرسم مشاهد اليوم الذي يقع فيه ذلك العذاب الواقع، الذي يرونه بعيداً ويراه الله قريباً. يرسم مشاهده في مجالي الكون وأغوار النفس. وهي مشاهد تشي بالهول المذهل المزلزل في الكون وفي النفس سواء:
{يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن}..
والمهل ذوب المعادن الكدر كدرديّ الزيت. والعهن هو الصوف المنتفش. والقرآن يقرر في مواضع مختلفة أن أحداثاً كونية كبرى ستقع في هذا اليوم، تغير أوضاع الأجرام الكونية وصفاتها ونسبها وروابطها. ومن هذه الأحداث أن تكون السماء كالمعادن المذابة. وهذه النصوص جديرة بأن يتأملها المشتغلون بالعلوم الطبيعية والفلكية. فمن المرجح عندهم أن الأجرام السماوية مؤلفة من معادن منصهرة إلى الدرجة الغازية وهي بعد درجة الانصهار والسيولة بمراحل فلعلها في يوم القيامة ستنطفئ كما قال:
{وإذا النجوم انكدرت} وستبرد حتى تصير معادن سائلة! وبهذا تتغير طبيعتها الحالية وهي الطبيعة الغازية!
على أية حال هذا مجرد احتمال ينفع الباحثين في هذه العلوم أن يتدبروه. أما نحن فنقف أمام هذا النص نتملى ذلك المشهد المرهوب، الذي تكون فيه السماء كذوب المعادن الكدر، وتكون فيه الجبال كالصوف الواهن المنتفش. ونتملى ما وراء هذا المشهد من الهول المذهل الذي ينطبع في النفوس، فيعبر عنه القرآن أعمق تعبير: